فصل: (سورة الحجرات: آية 11).

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة الحجرات: الآيات 6- 8].

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)}.
بعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة أخا عثمان لأمّه- وهو الذي ولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبى وقاص، فصلى بالناس وهو سكران صلاة الفجر أربعا، ثم قال: هل أزيدكم، فعزله عثمان عنهم- مصدّقا إلى بنى المصطلق، وكانت بينه وبينهم إحقة، فلما شارف ديارهم ركبوا مستقبلين له، فحسبهم مقاتليه، فرجع وقال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم: قد ارتدوا ومنعوا الزكاة، فغضب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهمّ أن يغزوهم، فبلغ القوم فوردوا وقالوا: نعوذ باللّه من غضبه وغضب رسوله، فاتهمهم فقال: «لتنتهنّ أو لأبعثنّ إليكم رجلا هو عندي كنفسي يقاتل مقاتلتكم ويسبى ذراريكم» ثم ضرب بيده على كتف على رضى اللّه عنه. وقيل: بعث إليهم خالد بن الوليد فوجدهم منادين بالصلوات متهجدين، فسلموا إليه الصدقات، فرجع. وفي تنكير الفاسق والنبأ: شياع في الفساق والأنباء، كأنه قال: أي فاسق جاءكم بأىّ نبإ. فتوقفوا فيه وتطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة، ولا تعتمدوا قول الفاسق؛ لأنّ من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه.
والفسوق: الخروج من الشيء والانسلاخ منه. يقال: فسقت الرطبة عن قشرها. ومن مقلوبه:
قفست البيضة، إذا كسرتها وأخرجت ما فيها. ومن مقلوبه أيضا: قفست الشيء إذا أخرجته عن يد مالكه مغتصبا له عليه، ثم استعمل في الخروج عن القصد والانسلاخ من الحق.
قال رؤبة:
فواسقا عن قصدها جوائرا

وقرأ ابن مسعود: {فتثبتوا}. والتثبت والتبين: متقاربان، وهما طلب الثبات والبيان والتعرّف، ولما كان رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وآله وسلم والذين معه بالمنزلة التي لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب، وما كان يقع مثل ما فرط من الوليد إلا في الندرة. قيل: إن جاءكم بحرف الشك وفيه أنّ على المؤمنين أن يكونوا على هذه الصفة، لئلا يطمع فاسق في مخاطبتهم بكلمة زور {أَنْ تُصِيبُوا} مفعول له، أى: كراهة إصابتكم {قَوْمًا بِجَهالَةٍ} حال، كقوله تعالى {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ} يعنى جاهلين بحقيقة الأمر وكنه القصة. والإصباح: بمعنى الصيرورة.
والندم: ضرب من الغم، وهو: أن تغتمّ على ما وقع منك تتمنى أنه لم يقع، وهو غم يصحب الإنسان صحبة لها دوام ولزام، لأنه كلما تذكر المتندّم عليه راجعه من الندام: وهو لزام الشريب ودوام صحبته. ومن مقلوباته: أدمن الأمر أدامه. ومدن بالمكان: أقام به. ومنه:
المدينة وقد تراهم يجعلون الهم صاحبا ونجيا وسميرا وضجيعا، وموصوفا بأنه لا يفارق صاحبه. الجملة المصدّرة بلولا تكون كلاما مستأنفا، لأدائه إلى تنافر النظم، ولكن متصلا بما قبله حالا من أحد الضميرين في فيكم المستتر المرفوع، أو البارز المجرور. وكلاهما مذهب سديد. والمعنى:
أن فيكم رسول اللّه على حالة يجب عليكم تغييرها. أو أنتم على حالة يجب عليكم تغييرها: وهي أنكم تحاولون منه أن يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعنّ لكم من رأى، واستصواب فعل المطواع لغيره التابع له فيما يرتئيه، المحتذى على أمثلته، ولو فعل ذلك {لَعَنِتُّمْ} أي لوقعتم في العنت والهلاك. يقال: فلان يتعنت فلانا، أى: يطلب ما يؤدّيه إلى الهلاك. وقد أعنت العظم:
إذا هيض بعد الجبر. وهذا يدل على أن بعض المؤمنين زينوا لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم الإيقاع ببني المصطلق وتصديق قول الوليد. وأن نظائر ذلك من الهنات كانت تفرط منهم، وأن بعضهم كانوا يتصوّنون ويزعهم جدّهم في التقوى عن الجسارة على ذلك، وهم الذين استثناهم بقوله تعالى {وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ} أي إلى بعضكم، ولكنه أغنت عن ذكر البعض:
صفتهم المفارقة لصفة غيرهم، وهذا من إيجازات القرآن ولمحاته اللطيفة، التي لا يفطن لها إلا الخواص. وعن بعض المفسرين: هم الذين امتحن اللّه قلوبهم للتقوى. وقوله: {أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} والخطاب لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، أى: أولئك المستثنون هم الراشدون يصدق ما قلته. فإن قلت: ما فائدة تقديم خبر إن على اسمها؟ قلت: القصد إلى توبيخ بعض المؤمنين على ما استهجن اللّه منهم من استتباع رأى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لآرائهم، فوجب تقديمه لانصباب الغرض إليه. فإن قلت: فلم قيل {يُطِيعُكُمْ} دون: أطاعكم؟ قلت:
للدلالة على أنه كان في إرادتهم استمرار عمله على ما يستصوبونه. وأنه كلما عنّ لهم رأى في أمر كان معمولا عليه، بدليل قوله: {فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ} كقولك: فلان يقرى الضيف ويحمى الحريم، تريد: أنه مما اعتاده ووجد منه مستمرّا. فإن قلت: كيف موقع لكِنْ وشريطتها مفقودة:
من مخالفة ما بعدها لما قبلها نفيا وإثباتا؟ قلت: هي مفقودة من حيث اللفظ، حاصلة من حيث المعنى لأن الذين حبب إليهم الإيمان قد غايرت صفتهم صفة المتقدّم ذكرهم، فوقعت، لكنّ في حاق موقعها من الاستدراك. ومعنى تحبيب اللّه وتكريهه اللطف والإمداد بالتوفاق، وسبيله الكناية كما سبق، وكل ذى لب وراجع إلى بصيرة وذهن لا يغبى عليه أن الرجل لا يمدح بغير فعله، وحمل الآية على ظاهرها يؤدّى إلى أن يثنى عليهم بفعل اللّه، وقد نفى اللّه هذا عن الذين أنزل فيهم {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا} فإن قلت: فإنّ العرب تمدح بالجمال وحسن الوجوه، وذلك فعل اللّه، وهو مدح مقبول عند الناس غير مردود. قلت: الذي سوّغ ذلك لهم أنهم رأوا حسن الرواء وو سامة المنظر في الغالب، يسفر عن مخبر مرضى وأخلاق محمودة ومن ثم قالوا: أحسن ما في الدميم وجهه، فلم يجعلوه من صفات المدح لذاته، ولكن لدلالته على غيره. على أن من محققة الثقات وعلماء المعاني من دفع صحة ذلك وخطأ المادح به، وقصر المدح على النعت بأمّهات الخير: وهي الفصاحة والشجاعة والعدل والعفة، وما يتشعب منها ويرجع إليها، وجعل الوصف بالجمال والثروة وكثرة الحفدة والأعضاد وغير ذلك مما ليس للإنسان فيه عمل غلطا ومخالفة عن المعقول {والْكُفْرَ} تغطية نعم اللّه تعالى وغمطها بالجحود.
{والْفُسُوقَ} الخروج عن قصد الإيمان ومحجته بركوب الكبائر {وَالْعِصْيانَ} ترك الانقياد والمضي لما أمر به الشارع. والعرق العاصي: العانذ. واعتصت النواة: اشتدّت. والرشد: الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه من الرشادة وهي الصخرة: قال أبو الوازع: كل صخرة رشادة. وأنشد:
وغير مقلّد وموشّمات ** صلين الضّوء من صمّ الرّشاد

و{فَضْلًا} مفعول له، أو مصدر من غير فعله. فإن قلت: من أين جاز وقوعه مفعولا له، والرشد فعل القوم، والفضل فعل اللّه تعالى، والشرط أن يتحد الفاعل. قلت: لما وقع الرشد عبارة عن التحبيب والتزيين والتكريه، مسندة إلى اسمه تقدست أسماؤه: صار الرشد كأنه فعله، فجاز أن ينتصب عنه أو لا ينتصب عن الراشدون، ولكن عن الفعل المسند إلى اسم اللّه تعالى، والجملة التي هي {أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} اعتراض. أو عن فعل مقدر، كأنه قيل: جرى ذلك، أو كان ذلك فضلا من اللّه. وأما كونه مصدرا من غير فعله، فأن يوضع موضع رشدا، لأنّ رشدهم فضل من اللّه لكونهم موفقين فيه، والفضل والنعمة بمعنى الإفضال والإنعام {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بأحوال المؤمنين وما بينهم من التمايز والتفاضل {حَكِيمٌ} حين يفضل وينعم بالتوفيق على أفاضلهم.

.[سورة الحجرات: آية 9].

{وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)}.
عن ابن عباس رضى اللّه عنهما قال: «وقف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على مجلس بعض الأنصار وهو على حمار فبال الحمار، فأمسك عبد اللّه ابن أبىّ بأنفه وقال: خل سبيل حمارك فقد آذانا نتنه. فقال عبد اللّه بن رواحة: واللّه إنّ بول حماره لأطيب من مسكك- وروى: حماره أفضل منك، وبول حماره أطيب من مسكك- ومضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وطال الخوض بينهما حتى استبا وتجالدا، وجاء قوماهما وهما الأوس والخزرج، فتجالدوا بالعصى، وقيل بالأيدى والنعال والسعف، فرجع إليهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأصلح بينهم، ونزلت».
وعن مقاتل: قرأها عليهم فاصطلحوا. والبغي: الاستطالة والظلم وإباء الصلح. والفيء: الرجوع، وقد سمى به الظل والغنيمة، لأنّ الظل يرجع بعد نسخ الشمس، والغنيمة: ما يرجع من أموال الكفار إلى المسلمين، وعن أبى عمرو: حتى تفي، بغير همز، ووجهه أنّ أبا عمرو خفف الأولى من الهمزتين الملتقيتين فلطفت على الراوي تلك الخلسة، فظنه قد طرحها. فإن قلت: ما وجه قوله: {اقْتَتَلُوا} والقياس {اقتتلتا}، كما قرأ ابن أبى عبلة. أو {اقتتلا}، كما قرأ عبيد بن عمير على تأويل الرهطين أو النفرين؟ قلت: هو مما حمل على المعنى دون اللفظ، لأنّ الطائفتين في معنى القوم والناس. وفي قراءة عبد اللّه: {حتى يفيئوا إلى أمر اللّه فإن فاءوا فخذوا بينهم بالقسط}. وحكم الفئة الباغية: وجوب قتالها ما قاتلت. وعن ابن عمر: ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدته من أمر هذه الآية إن لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرنى اللّه عز وجل. قاله بعد أن اعتزل، فإذا كافت وقبضت عن الحرب أيديها تركت، وإذا تولت عمل بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا ابن أم عبد، هل تدرى كيف حكم اللّه فيمن بغى من هذه الأمّة؟ قال: اللّه ورسوله أعلم قال: لا يجهز على جريحها، ولا يقتل أسيرها، ولا يطلب هاربها ولا يقسم فيؤها» ولا تخلو الفئتان من المسلمين في اقتتالهما: إما أن يقتتلا على سبيل البغي منهما جميعا، فالواجب في ذلك أن يمشى بينهما بما يصلح ذات البين ويثمر المكافة والموادعة، فإن لم تتحاجزا ولم تصطلحا وأقامتا على البغي: صير إلى مقاتلتهما، وإما أن يلتحم بينهما القتال لشبهة دخلت عليهما، وكلتاهما عند أنفسهما محقة، فالواجب إزالة الشبهة بالحجج النيرة والبراهين القاطعة، واطلاعهما على مراشد الحق. فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا من اتباع الحق بعد وضوحه لهما، فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين. وإما أن تكون إحداهما الباغية على الأخرى، فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب، فإن فعلت أصلح بينهما وبين المبغى عليها بالقسط والعدل، وفي ذلك تفاصيل: إن كانت الباغية من قلة العدد بحيث لا منعة لها: ضمنت بعد الفيئة ما جنت، وإن كانت كثيرة ذات منعة وشوكة، لم تضمن إلا عند محمد بن الحسن رحمه اللّه، فإنه كان يفتي بأن الضمان يلزمها إذا فاءت. وأمّا قبل التجمع والتجند أو حين تتفرق عند وضع الحرب أوزارها، فما جنته ضمنته عند الجميع، فمحمل الإصلاح بالعدل في قوله تعالى {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ} على مذهب محمد واضح منطبق على لفظ التنزيل، وعلى قول غيره: وجهه أن يحمل على كون الفئة قليلة العدد، والذي ذكروا أن الغرض إماتة الضغائن وسل الأحقاد دون ضمان الجنايات: ليس بحسن الطباق للمأمور به من أعمال العدل ومراعاة القسط.
فإن قلت: فلم قرن بالإصلاح الثاني العدل دون الأوّل؟ قلت: لأنّ المراد بالاقتتال في أول الآية أن يقتتلا باغيتين معا أو راكبتى شبهة، وأيتهما كانت، فالذي يجب على المسلمين أن يأخذوا به في شأنهما: إصلاح ذات البين، وتسكين الدهماء بإراءة الحق والمواعظ الشافية، ونفى الشبهة، إلا إذا أصرتا، فحينئذ تجب المقاتلة. وأما الضمان فلا يتجه، وليس كذلك إذا بغت إحداهما، فإنّ الضمان متجه على الوجهين المذكورين {وَأَقْسِطُوا} أمر باستعمال القسط على طريق العموم بعد ما أمر به في إصلاح ذات البين، والقول فيه مثله في الأمر باتقاء اللّه على عقب النهى عن التقديم بين يديه، والقسط- بالفتح: الجور من القسط:
وهو اعوجاج في الرجلين. وعود قاسط: يابس. وأقسطته الرياح. وأمّا القسط بمعنى العدل، فالفعل منه: أقسط، وهمزته للسلب، أى: أزال القسط وهو الجور.

.[سورة الحجرات: آية 10].

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)}.
هذا تقرير لما ألزمه من تولى الإصلاح بين من وقعت بينهم المشاقة من المؤمنين، وبيان أن الإيمان قد عقد بين أهله من السبب القريب والنسب اللاصق: ما إن لم يفضل الأخوّة ولم يبرز عليها لم ينقص عنها ولم يتقاصر عن غايتها، ثم قد جرت عادة الناس على أنه إذا نشب مثل ذلك بين اثنين من إخوة الولاد، لزم السائر أن يتناهضوا في رفعه وإزاحته، ويركبوا الصعب والذلول مشيا بالصلح وبثا للسفراء بينهما، إلى أن يصادف ما وهي من الوفاق من يرقعه، وما استشن من الوصال من يبله، فالأخوة في الدين أحق بذلك وبأشدّ منه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يعيبه، ولا يتطاول عليه في البنيان فيستر عنه الريح إلا بإذنه، ولا يؤذيه بقتار قدره» ثم قال: «احفظوا، ولا يحفظ منكم إلا قليل». فإن قلت: فلم خص الاثنان بالذكر دون الجمع؟ قلت: لأن أقل من يقع بينهم الشقاق اثنان، فإذا لزمت المصالحة بين الأقل كانت بين الأكثر ألزم، لأنّ الفساد في شقاق الجمع أكثر منه في شقاق الاثنين، وقيل: المراد بالأخوين الأوس والخزرج، وقرئ: {بين إخوتكم وإخوانكم}. والمعنى: ليس المؤمنون إلا إخوة، وأنهم خلص لذلك متمحضون، قد انزاحت عنهم شبهات الأجنبية، وأبى لطف حالهم في التمازج والاتحاد أن يقدموا على ما يتولد منه التقاطع، فبادروا قطع ما يقع من ذلك إن وقع واحسموه {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فإنكم إن فعلتم لم تحملكم التقوى إلا على التواصل والائتلاف، والمسارعة إلى إماطة ما يفرط منه، وكان عند فعلكم ذلك وصول رحمة اللّه إليكم، واشتمال رأفته عليكم حقيقا بأن تعقدوا به رجاءكم.

.[سورة الحجرات: آية 11].

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)}.
القوم: الرجال خاصة، لأنهم القوّام بأمور النساء. قال اللّه تعالى {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ} وقال عليه الصلاة والسلام: «النساء لحم على وضم إلا ما ذب عنه والذابون هم الرجال»، وهو في الأصل جمع قائم، كصوّم وزوّر: في جمع صائم وزائر. أو تسمية بالمصدر. عن بعض العرب: إذا أكلت طعاما أحببت نوما وأبغضت قوما. أي قياما، واختصاص القوم بالرجال صريح في الآية وفي قول زهير:
أقوم آل حصن أم نساء

وأما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد: هم الذكور والإناث، فليس لفظ القوم بمتعاط للفريقين، ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الإناث لأنهن توابع لرجالهن، وتنكير القوم والنساء يحتمل معنيين: أن يراد: لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض وأن تقصد إفادة الشياع، وأن تصير كل جماعة منهم منهية عن السخرية، وإنما لم يقل: رجل من رجل، ولا امرأة من امرأة على التوحيد، إعلاما بإقدام غير واحد من رجالهم وغير واحدة من نسائهم على السخرية، واستفظاعا للشأن الذي كانوا عليه، ولأنّ مشهد الساخر لا يكاد يخلو ممن يتلهى ويستضحك على قوله، ولا يأتى ما عليه من النهى والإنكار، فيكون شريك الساخر وتلوه في تحمل الوزر، وكذلك كل من يطرق سمعه فيستطيبه ويضحك به، فيؤدى ذلك- وإن أوجده واحد- إلى تكثر السخرة وانقلاب الواحد جماعة وقوما. وقوله تعالى {عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} كلام مستأنف قد ورد مورد جواب المستخبر عن العلة الموجبة لما جاء النهى عنه، وإلا فقد كان حقه أن يوصل بما قبله بالفاء. والمعنى وجوب أن يعتقد كل أحد أن المسخور منه ربما كان عند اللّه خيرا من الساخر، لأنّ الناس لا يطلعون إلا على ظواهر الأحوال ولا علم لهم بالخفيات، وإنما الذي يزن عند اللّه: خلوص الضمائر وتقوى القلوب، وعلمهم من ذلك بمعزل، فينبغي أن لا يجترئ أحد على الاستهزاء بمن تقتحمه عينه إذا رآه رث الحال، أو ذا عاهة في بدنه، أو غير لبيق في محادثته، فلعله أخلص ضميرا وأتقى قلبا ممن هو على ضدّ صفته، فيظلم نفسه بتحقير من وقره اللّه والاستهانة بمن عظمه اللّه، ولقد بلغ بالسلف إفراط توقيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمرو بن شرجيل: لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه: خشيت أن أصنع مثل الذي صنعه. وعن عبد اللّه بن مسعود: البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوّل كلبا. وفي قراءة عبد اللّه: {عسوا أن يكونوا}، و{عسين أن يكن}، فعسى على هذه القراءة هي ذات الخبر كالتي في قوله تعالى {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} وعلى الأولى التي لا خبر لها كقوله تعالى {وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا}.